## كتاب نك كليغ يفضح تحول الإنترنت إلى "سجن رقمي"
كيف ننقذ الفضاء السيبراني من براثن الاحتكار والتفتت؟
لطالما كان الإنترنت
وعداً عالمياً بالحرية اللامتناهية والمعرفة الشاملة، فضاءً مفتوحاً يذيب الحدود
ويجمع البشر على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم. في غضون عقود قليلة، تحول هذا الفضاء من
مجرد شبكة لتبادل المعلومات إلى عصب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لكن
هل أوفى الإنترنت بوعده؟
![]() |
## كتاب نك كليغ يفضح تحول الإنترنت إلى "سجن رقمي": كيف ننقذ الفضاء السيبراني من براثن الاحتكار والتفتت؟ |
يأتي كتاب "كيف
ننقذ الإنترنت؟" (How to Save the Internet)، للكاتب **نك كليغ**،
نائب رئيس الشؤون العالمية في شركة **ميتا** (Meta)، ليدق ناقوس الخطر حول المصير المجهول للشبكة العالمية. يقدم
كليغ، الذي يحمل خلفية سياسية بوصفه نائباً سابقاً لرئيس الوزراء البريطاني، رؤية
مزدوجة: فمن ناحية، يحذر من أخطار التفتت الجيوسياسي وهيمنة **الخوارزميات**، ومن
ناحية أخرى، يحاول تبرير أخطاء وادي السيليكون، وهو ما يثير جدلاً واسعاً حول
دوافع الكتاب وفعالية مقترحاته.
### الإنترنت بين اليوتوبيا والواقع المرير من الفضاء المفتوح إلى السجن الرقمي
في بداياته، كان
الإنترنت يمثل ذروة الحريات التقنية، حيث ألغيت المسافات وحواجز الوصول إلى
المعلومة. لم نعد بحاجة لساعي البريد أو المكتبات العامة، فقد صار العالم مجرد
نقرة واحدة. لكن، كما يشير كليغ، سرعان ما تحول هذا الفضاء إلى "سجن رقمي"
تحاصره الجدران الافتراضية والاحتكارات العظمى.
تتركز الأزمة الحالية،
وفقاً للكتاب، في ثلاثة محاور رئيسية:
1. **المعلومات المضللة(Disinformation):** الانتشار الكاسح للأخبار الزائفة
والمحتوى المتطرف الذي يهدد الديمقراطيات والاستقرار الاجتماعي.
2. **الاحتكار والهيمنة:** سيطرة عدد محدود من الشركات العملاقة على
البنية التحتية والبيانات الشخصية، ما يحد من المنافسة والابتكار.
3. **الأضرار الاجتماعية والنفسية:** الجدل حول تأثير الاستخدام
المفرط لمنصات التواصل الاجتماعي على الصحة النفسية، خاصة لدى فئة المراهقين.
يرى كليغ أن مهمته الأساسية في هذا الكتاب ليست الدفاع عن ميتا تحديداً، بل توضيح المخاطر التي تهدد مستقبل الإنترنت كفضاء موحد ومفتوح، متسائلاً بعمق: هل يمكننا أن نوقف عجلة الابتكار التقني؟ بالتأكيد لا، لكن يمكننا التحكم بمسارها.
### جدلية الدفاع عن عمالقة التكنولوجيا مرافعة كليغ المثيرة للجدل
يشغل كليغ منصباً
رفيعاً في إحدى أكبر الشركات التي تقف في قلب الأزمة، وهو ما يضع كتابه تحت مجهر
النقد الدقيق. في محاولة للدفاع عن وادي السيليكون، يحاول كليغ في الفصل الأول دحض
الاتهامات المباشرة حول مسؤولية المنصات عن تدهور الصحة النفسية. يستند إلى دراسات
أكاديمية ليؤكد أن الأزمة لم تنشأ عن التقنيات بحد ذاتها، بل عن **الإفراط في
استخدامها**، محولاً بذلك قفص الاتهام من المصمم إلى المستخدم.
- غير أن هذه المرافعة، كما يلاحظ النقاد والمراجعون، تبدو انتقائية وتفتقر إلى الحيادية التامة. فـ
- "ملفات فيسبوك" المسربة عام 2021 أظهرت بوضوح أن الشركة كانت على علم بأن خوارزمياتها
- مصممة لتعزيز **الانفعال** وخطاب الكراهية، لأن ذلك يضمن زيادة نسب التفاعل وبالتالي
- الأرباح، متجاهلة بذلك الضرر الاجتماعي.
في هذا الصدد، تتهاوى
حجة كليغ أمام وقائع وثقها كتاب مثل ماكس فيشر في "آلة الفوضى" (Chaos Machine)، الذي كشف كيف أن شركات مثل يوتيوب وفيسبوك تقود
المستخدمين تدريجياً نحو محتوى أكثر تطرفاً لضمان بقائهم أطول فترة ممكنة على
الشاشة. بالنسبة للمستخدم العادي، فإن ما يصفه كليغ بـ "المبالغة" صار
واقعاً ملموساً من التضليل والانقسام.
### تحديات مصيرية تهدد مستقبل الشبكة العالمية
يحدد كليغ خطرين
رئيسيين يتطلبان تدخلاً دولياً عاجلاً لـ **إنقاذ الإنترنت**:
#### 1. التفتت
الجيوسياسي والـ "إنترنتات" المتعددة
الخطر الأول، وهو
الأكثر جوهرية، يكمن في تحول الإنترنت من شبكة كونية موحدة إلى مجموعة من "الجزر
الرقمية" المعزولة. بدأ هذا التفتت بقرار دول كبرى بناء جدران رقمية عازلة أو
فرض قوانين تهدف إلى حصر البيانات داخل الحدود الوطنية.
* **النموذج الصيني والروسي:** بناء شبكات داخلية معزولة تخضع
لرقابة صارمة، ما يحرم مواطنيهم من المحتوى العالمي المفتوح.
* **النموذج الأوروبي:** على الرغم من أن تشريعات مثل **GDPR** تهدف
لحماية الخصوصية، إلا أنها تفرض حواجز تنظيمية تؤثر على تدفق البيانات عابرة
الحدود.
* **النموذج الأمريكي:** خوض معارك قضائية وتنظيمية ضد الاحتكارات
المحلية، ما يخلق حالة من عدم اليقين القانوني.
يحذر كليغ من أن
النتيجة النهائية لهذا المسار هي أن نستيقظ يوماً لنجد أنفسنا داخل أربعة عوالم
رقمية منفصلة: أمريكي، أوروبي، صيني، وروسي، ما يقضي على المفهوم الأصلي للشبكة
العالمية.
#### 2. ثورة الذكاء الاصطناعي وصناعة الوهم الرقمي
يأتي الذكاء الاصطناعي
التوليدي (Generative AI) ليضاعف من
أزمة الثقة والتضليل. فقدرة نماذج مثل
GPT-4 أو
Google Gemini على إنتاج صور ونصوص ومقاطع صوتية (deepfakes) بكثافة
وسرعة هائلة تفوق قدرة البشر على التحقق.
- لقد أصبح المشهد مألوفاً: تسجيل صوتي منسوب لسياسي، أو مقطع فيديو يظهر نجمًا مشهورًا يتحدث
- بغير لغته، يتبين لاحقاً أنه كله وهم مصطنع ببراعة. يشير كليغ إلى أن هذا لا يقتصر على التضليل
- الانتخابي؛ بل يمتد إلى الأوساط الأكاديمية والإعلامية، حيث تتآكل القدرة على التمييز بين الحقيقة
- والمحتوى المصنوع.
#### 3. قيد الخوارزميات والشفافية المغيبة
لا تقتصر المشكلة على
المعلومات الكاذبة، بل تتجذر في غياب الشفافية حول كيفية ترتيب وعرض المحتوى. المنصات
الاجتماعية تعيدنا باستمرار إلى "الدائرة نفسها" من الآراء والأخبار
التي تخدم أجندات خفية.
- على سبيل المثال، قد يرى مستخدم على **تيك توك** أو فيسبوك أن ما يُعرض أمامه هو "العالم
- الحقيقي"، بينما هو في الواقع نافذة صممت بعناية فائقة لخدمة مصالح تجارية أو سياسية، ما يحول
- تجربة التصفح من فضاء حر إلى "دهليز" يتم تحديد مساراته مسبقاً، محذراً من تحول الذكاء
- الاصطناعي إلى أداة لـ **التقييد** والرقابة على غرار ما
يحدث في نظام المراقبة الشامل الصيني.
### مقترحات نك كليغ لإنقاذ الإنترنت من الأزمة إلى الحلول الدولية
بعد تحديد التحديات
الجسيمة، يطرح كليغ مجموعة من الحلول التي تتطلب إرادة سياسية وتوافقاً دولياً،
مقترحاً مساراً من أربع خطوات لـ **إنقاذ الإنترنت**:
1. **الشفافية الجذرية:** يجب على المنصات الكبرى الكشف عن آليات
عمل خوارزمياتها وكيفية اتخاذ قرارات الترتيب والحذف، بعيداً عن الغموض الحالي.
2. **التعاون الدولي الملزم:** بما أن الشبكة عابرة للحدود، لا يمكن
لدولة واحدة حل الأزمة. يدعو كليغ إلى اتفاقات دولية بين القوى الكبرى لوضع قواعد
مشتركة، على غرار المعاهدات المتعلقة بالتجارة أو المناخ.
3. **مجالس المراجعة المستقلة:** إنشاء هيئات محايدة (مثل مجلس
الإشراف التابع لميتا) تكون مهمتها مراجعة قرارات الحجب والحذف ووضع إطار أخلاقي
للتعامل مع المحتوى.
4. **المساءلة التنظيمية:** ضرورة وجود هيئات تنظيمية قوية تضمن عدم
بقاء شركات التكنولوجيا هي **صاحبة الكلمة العليا** في تحديد مصير الفضاء الرقمي.
### استقبال الكتاب في المشهد النقدي مديح واستنكار
أثار الكتاب انقساماً
حاداً في الأوساط النقدية العالمية، ما يعكس الانقسام حول مستقبل **وادي السيليكون**
ككل:
* **المدافعون:** وصف توني بلير الكتاب بأنه "جرس إنذار لا
يمكن تجاهله"، ورأى فيه ريد هوفمان "قراءة حيوية لكل من يسعى لتنظيم عصر
التكنولوجيا القادم".
* **المنتقدون:** كانت صحيفة "التايمز" أكثر حدة، حيث
وصفت الكتاب بأنه "مثير للاشمئزاز ومفتقر للمضمون"، مشيرة إلى أن دفاع
كليغ المستميت عن سياسات ميتا يفرغ المقترحات من مصداقيتها.
* **المتشككون:** أعرب جوناثان هايدت في "الغارديان" عن
شكوكه في إمكانية نجاح مثل هذه المبادرات على شركات تسيطر بالفعل على الجزء الأكبر
من الشبكة. واستشهد برأي الصحافية التقنية كارا سويشر التي وصفت فيسبوك بأنه "مدينة
بلا لافتات، شوارع بلا شرطة، لكنها تجمع الإيجارات على كل شيء"، ما يجعلها
مرتعاً للمحتالين والمتطرفين.
### خاتمة مفترق طرق الرقمنة
يقف الإنترنت اليوم
بالفعل على مفترق طرق تاريخي: فإما أن يعود إلى فضاء مشترك، يدار بالشفافية
والتعاون الدولي، وإما أن يتفتت إلى "جزر رقمية" تتنازعها الدول
والشركات الاحتكارية.
وعلى الرغم من أهمية
المقترحات التحذيرية التي قدمها نك كليغ، فإن السؤال الأبرز يبقى مطروحاً: هل
تستطيع القوى المهيمنة التي بنت نفوذها الاقتصادي والسياسي على فوضى الخوارزميات،
أن تتحول طواعية إلى حارس للنظام؟ إن مسار إنقاذ الإنترنت يتطلب ما هو أكثر من
مجرد إعلانات نوايا من داخل معقل **وادي السيليكون**، بل يحتاج إلى تفعيل حقيقي
للمساءلة والتعاون الدولي لضمان بقاء الشبكة كأداة للتحرير لا للتقييد.